التكييف القانوني والقضائي لعقود الشغل محددة المدة

الأستاذة : فتيحة التوزاني
تعتبر عقود الشغل محددة المدة، أحد أهم أشكال عقود الشغل، فبقدر ما هي تشكل مفتاحا للفرج بالنسبة للشباب للخروج من شبح البطالة والولوج إلى عالم الشغل ولو لمدة محددة سلفا، بقدر ما أصبحت أداة مطيعة في يد المشغلين وستارا تختفي وراءها عقود شغل غيرمحددة المدة ، للتهرب من آثار هذه الأخيرة، التي تحرم الأجير من التعويضات المنصوص عليها قانونا في حالة تسريحه دون مبرر قانوني، ليجد الأجراء أنفسهم بعد أن أفنوا ربيع عمرهم في خدمة مقاولة معينة، معرضين للبطالة تحت مبررات انتهاء مدة العقد أو انجاز شغل معين، فيبقى أمامهم الملاذ الوحيد هو تدخل القضاء عساه يعيد تكييف عقودهم ويعطيها الوصف القانوني المناسب لاستخلاص الآثار المترتبة عنها.
لذلك سنحاول في هذه الدراسة تناول موقف المشرع المغربي من خلال مدونة الشغل في تكييف عقود الشغل محددة المدة، ثم نقف عند موقف القضاء مجسد في محكمة النقض وبعض محاكم الموضوع.
الفقرة الأولى : التكييف القانوني لعقود الشغل محددة المدة
إذا كانت مدونة الشغل نصت في المادة 16 على انه يبرم عقد الشغل لمدة محددة او لمدة غير محددة او لإنجاز شغل معين، و حددت حالات عقد الشغل المحدد المدة في :
ــ إحلال أجير محل أجير آخر في حالة توقف عقد الشغل هذا الأخير،مالم يكن التوقف ناتجا عن فترة الإضراب
ــ ازدياد نشاط المقاولة بكيفية مؤقتة
ـــ اذا كان الشغل ذا طبيعة موسمية
إلا أن الفقرة الرابعة من نفس المادة تركت المجال مفتوحا لإحداث حالات أخرى للعقد محدد المدة في بعض القطاعات وبصفة استثنائية، على أن يحدد ذلك بموجب نص تنظيمي بعد استشارة المنظمات المهنية للمشغلين والمنظمات النقابية للأجراء الأكثر تمثيلا، أو بمقتضى اتفاقية الشغل الجماعية .
كما يمكن في القطاعات غير الفلاحية ،عند فتح مقاولة لأول مرة أو مؤسسة جديدة داخل المقاولة أو إطلاق منتوج جديد لأول مرة، إبرام عقد الشغل لمدة أقصاها سنة قابلة للتجديد مرة واحدة.
وبالإضافة الى حالات عقد الشغل المحدد المدة التي وردت على سبيل الحصر في الفقرة الثالثة من المادة 16، أوردت المادة 13 ضمن ذلك أيضا حالة العمل خلال فترة الاختبار .
ورغم عدم التنصيص على ذلك صراحة ،إلا أن ذلك يفهم مما ورد فيها من أنه يمكن خلالها لأحد الطرفين إنهاء عقد الشغل بإرادته دون أجل إخطار أو تعويض.
إذن فالعقد المحدد المدة هو حل جزئي تلجأ إليه المقاولة في الاعمال التي لا تكون إلا مؤقتة ، فاللجوء إليه هو إعانة استثنائية في إطار العمل المؤقت أو الموسمي أو التي تكمل عمل الاجراء القارين في المقاولة ،عندما يتعلق الأمر بأجير وقتي.
وهي عقود تظهر من خلال النظرة الأولى للنص التشريعي أنها لاتثير أي غموض أو إبهام حول تحديدها، لكن التمييز بين عقود الشغل محددة المدة والغير محددة المدة ليس يسيرا في كل الحالات .لا سيما وأن المشرع المغربي لم يشيد الركائز الأساسية للعقود محددة المدة، إذ اقتصر على التسمية مع ذكر بعض خطوطها العريضة، وهي لا تسمح في العديد من الاحيان باستخلاص صفة العقد محدد أم غير محدد المدة.
أول إشكال يطرح هو أن المشرع المغربي لم يخضع عقد الشغل محدد المدة لشكلية الكتابة ،فالمادة 18 من مدونة الشغل نصت على أنه يمكن إثبات عقد الشغل بجميع وسائل الإثبات، وهذا بخلاف التشريعات المقارنة كالتشريع الفرنسي والجزائري اللذين جعلا الكتابة شرطا أساسيا لإبرام هذا العقد ،وعند إغفال هذه الشكلية يعد العقد مبرما لمدة غير محددة ،لذلك يجد القضاء في كثير من الأحيان صعوبة في التمييز بين العقدين محدد المدة وغير المحدد المدة.
الفقرة الثانية : التكييف القضائي لعقود الشغل محددة المدة
يظهر تكييف القضاء لعقود الشغل محددة المدة بانتهاء المدة المتفق عليها بين الاطراف، اذا كان محددا سلفا، أو بانتهاء الشغل المتفق عليه، لكن الواقع أبان أن بعض المشغلين يواظبون على تجديد هذه العقود باستمرار، غير مراعين في ذلك المدة القصوى التي حددها المشرع للتجديد، كما حددتها المادة 17 من مدونة الشغل وهي سنة، أو إبرام عقد شغل محدد المدة مع تجديده كل مرة، أو استمرار النشاط الذي يدعون أنه موسمي بصفة مستمرة، وغير ذلك من الحيل التي يستعملها أرباب العمل للتنصل من الالتزامات الملقاة على عاتقهم حين يكون العقد غير محدد المدة، لكن القضاء المغربي وخاصة منه الحديث، تنبه لمثل هذه المراوغات من طرف المقاولين في كثير من قراراته الحديثة، واعتبرت محكمة النقض في مثل قرار لها ” أن عقد العمل الذي يبرم لمدة محددة في سنة واحدة ثم يجدد كتابة كل سنة لنفس المدة ولعدة سنين يعتبرعقدا غير محدد المدة لأن تحديده وتجديده إنما هو وسيلة يهدف من ورائها المشغل إخفاء وجود عقد شغل غير محدد المدة للتهرب من الآثار القانونية للعقد المذكور“.
هذا التوجه الذي أخدت به محكمة النقض هو مقنن تشريعيا من طرف المشرع الفرنسي بمقتضى قانون 03 يناير 1979 المتعلق بنظام العقود المحددة الذي جعل هذه العقود المحددة المتتابعة تولد مجتمعة عقدا غير محدد المدة يقتضي عند الإنهاء مراعاة أحكامه.
ونفس الأمر ينطبق على الاسترسال في إبرام عقود الشغل محددة المدة،أي ابرام عقد شغل لمدة محددة ثم يجدد كل مرة ولفترات قد تمتد لسنوات، وإن كانت بينها فترات متقطعة توحي بأنها غير متجددة، كانت تعتبره محاكم الموضوع عقود محددة المدة اعتمادا على مبادئ العدالة والإنصاف وتشبتا بإرادة المتعاقدين،إلا أن محكمة النقض كان لها موقف معاكس في العديد من القرارات الحديثة واعتبرته عقدا غير محدد المدة.
فقداستقرت محكمة النقض على أن تضمين المشغل في العقد المحدد المدة شرطا يخوله حق فسخ العقد بإرادته المنفردة قبل حلول الأجل المحدد، يجعل العقد هو عقد شغل لمدة غير محددة .وهو نفس الموقف الذي أخدت به محكمة النقض الفرنسية على اعتبار أن هذا الشرط يعد مخالفا للنظام العام الاجتماعي فيبطل الشرط ويبقي العقد صحيحا.
أما فيما يتعلق بإبرام عقود شغل محددة المدة في حالة ازدياد نشاط المقاولة بشكل مؤقت، فالملاحظ أن المشرع المغربي لم يحدد نوع أو طبيعة العمل وخصائصه لنميزه بين العمل الاعتيادي والعرضي، فمثلا المقاولة قد تتعاطى إحدى الأنشطة التي تتميز بفترات الطلب على السلع، وقد يكون ذلك بصفة اعتيادية أو غير اعتيادية، فالطلب على الفنادق في فصل الصيف قد يكون أمرا عاديا ،حيث تكون المقاولة مستوعبة للتكهنات وفق رسم بياني يخولها اتخاد كامل الاحتياطات لمثل هذه الفصول. لكن قد لا تتكهن بارتفاع عدد السياح في موسم شتائي بسبب مثلا وجود مؤتمر دولي، لذلك فالقضاء عليه أن يأخد بحسن نية المقاول بالاقتصار على المدة التي ازداد فيها النشاط بكيفية غير اعتيادية ،وأن يستعين في ذلك بالأعراف المهنية وخصوصياتها لاستخراج بعض العناصر المشتركة فيما بينها ،لان العبرة ليس بطبيعة العمل الموسمية وإنما بصفة أنها مؤقتة أي أنها تزيد أو تنقص بالمقارنة مع السنوات الماضية .
كذلك ضمن الحالات التي نص عليها المشرع لاعتبار العقد محدد المدة هو الطبيعة الموسمية للشغل، لكن يبقى السؤال ما هو الموسم ؟ فالسؤال يطرح اشكالات على القضاء أمام عدم تحديد مفهومه من طرف المشرع، لذلك أخد القضاء في توجهه أنه ذلك العمل الذي يتكرر عادة كل سنة وفي تواريخ تكون شبه محددة كجني الثمار أو التصبير ،فمثلا القضاء الفرنسي مجسد في محكمة النقض الفرنسية في قرار له اعتبر أن عقود الشغل المبرمة لفترة سنة دراسية أو جامعية لا تعتبر موسمية، لكن اعتبرت أن إبرام عقد الشغل في موسم معين يتكرر كل سنة وخلال تواريخ تكون محددة يعتبر عقد محدد المدة،أما موقف قضائنا المغربي فقد استخلصت محكمة الاستئناف بالجديدة في قرار لها (قرار عدد 277، صادر عن الغرفة الاجتماعية بمحكمة الاستئناف بالجديدة بتاريخ 08/11/2004 ملف عدد 167/02/04 )أن العامل الذي كان يشتغل غطاسا في البحر من أجل جمع الطحالب ولفترة معينة مرخص بها من طرف مندوب الصيد البحري يعتبر أجيرا موسميا بناء على بطاقة الشغل التي تحمل عبارة موسمي ولأن مهنة الغطاس لجني الطحالب تكون خلال المدة المرخص بها من طرف السلطات المختصة، كما اعتبر قرار لمحكمة النقض( قرار عدد 135 صادر عن الغرفة الاجتماعية بمحكمة النقض بتاريخ 9/2/2005 ،ملف عدد 1051/2004 ) أن الأجير الذي يشتغل في الحرث وجني الزيتون والحصاد وتنقية الأشجار وسياقة الجرار وهو المسير للضيعة لا يعتبر عمله عملا موسميا نظرا لطبيعة العمل الذي يقوم به، وقد ساير في ذلك محكمة النقض الفرنسية التي اعتبرت بأن الأجير الذي يشتغل في مقاولة موسمية خلال كل فترات أنشطتها (جني البطاطس ،الطماطم ،البرتقال )،مرتبطا بعقد شغل غير محدد المدة .
ومن وقائع قرار لمحكمة الاستئناف بالرباط ( قرار عدد 89/9595 بتاريخ8/1/1991) جاء فيه إن العمل الذي يؤديه المستأنف عليه كان موسميا ينتهي بحلول فصل الشتاء ولا يعود إلا بعد بعد فصل الربيع نظرا لتهاطل الأمطار ووجود الأوحال في الاسواق”.
فمن منطلق هذه القرارات وأخرى يجد القضاء المغربي نفسه أمام غموض النص القانوني مجبرا على إعادة تكييف عقود الشغل من عقود محددة المدة تنتهي بانتهاء مدتها المتفق عليها في العقد، دونما استحقاق الاجير لأي تعويضات خاصة منها التعويض عن الفصل التعسفي والتعويض عن مهلة الإخطار والضرر، والتي تقيه من العوز والفقر طيلة الفترة التي يبحث فيها عن عمل آخر، أو تكييفها على أنها عقود غير محددة المدة بغض النظر عن ماتم الاتفاق عليه بين الأجير ومشغله، إيمانا من القضاء بوجود علاقة تعاقدية يدعن فيها الأجير لإرادة المشغل في تحرير عقد يحرره من تحمل أعباء التعويضات المستحقة عن الفصل التعسفي للعقد غير محدد المدة.
خاتمة :
إننا نسجل التدخل الإيجابي للقضاء المغربي ممثلا في محكمة النقض في سبيل تغييرالوصف القانوني للعقود من محددة المدة إلى غير محددة المدة ،وإن كان هذا التدخل لا يخلو من تراجعات ،لكن لا تجب المغالاة في إعطاء القضاء صفة الهيئة التي تقوم بالإصلاح الجذري ،وإن كنا نرى فيه المؤسسة التي تساهم في ذلك إلى أقصى حد،لذلك نناشد المشرع المغربي للتدخل من أجل تضمين هذه الاجتهادات في نصوص قانونية ضمن مواد الشغل ،حتى يجد القضاء سندا قانونيا يعتمد عليه في تعليل أحكامه بدل استناده في كثير من الحالات من أجل إعادة تكييف الوصف القانوني لهذه العقود على مبادئ العدالة والإنصاف.