إصلاح التعليم بالمغرب، الإكراهات والبدائل الحقيقية لتجاوز الأزمة
بقلم : * محسن بوفارس
في مساءلتنا لأزمة التعليم والإرادة السياسية يمكن أن ننطلق من سؤال بسيط كالتالي:
في غياب ديمقراطية حقيقية، هل يمكن إصلاح التعليم؟ هل يمكن أن يسير القطار على سكته في غياب قاطرة؟
قد نعطي لشخص ما أو حيوانا مريضأ بعض المهدئات والمسكنات لتسكين ألمه، لكن هل سينقذه ذلك من الموت في غياب علاج فعال وقبل ذلك تشخيص دقيق للحالة؟
في حالتنا ليس غريبا في شيء أن نقول إن حالة الأزمة الملازمة للتعليم المغربي ليست في حاجة إلى تشخيص أو وصف علاج . فقد سال مداد كثير تحت جسر المنظومة التربوية ببلادنا منذ بدأ استشعار عمق وخطر الأزمة. -والتي بالمناسبة أكل في سياقها الكثيرون خبزا شهيا. انطلاقا من المسؤولين الحكوميين والإداريين ووصولا إلى جماعة المنظرين و”الخبراء” في كل شيء تقريبا من السوفسطائيين القدامى و الجدد-. بل هي أزمة في حاجة فقط إلى شيء من الشجاعة السياسية أو على الأقل، إلى شيء من الحياء والخجل.
إن حالة التعليم اليوم باعتبارها حالة أزمة راهنة هي بلا شك حالة لها جذورها الممتدة في الماضي، ماض ولى وانتهى صحيح، لكنه لاينفك يجثم بظله الثقيل على الحاضر، مؤسسا للمستقبل.. إنه ماضي الصراع الدموي حول السلطة بين المخزن المعاصر و قبائل المعارضة، معارضة كانت تسعى إما إلى الاستفراد بالسلطة أو إلى اقتسامها مع هذا المخزن حسب ما توحي وتسمح به موازين القوى القائمة بينهما. لكنها وجدت نفسها أمام خصم مصر على أن يحكم البلاد بمفرده ويتوجس من كل كلام أو تحرك في اتجاه المطالبة بديمقراطية حقيقية.
في ظل هذا التجاذب شكل قطاع التعليم ميدان معركة أساسي بين القوى المتدافعة. القوى الديمقراطية والتقدمية التي أرادت تعليما مجانيا معمما وموحدا وعلميا لكل أبناء المغاربة، وقوى الرجعية والانتهازية التي اصطفت مع المخزن وعملت على إقناعه -بشتى الأساليب وبكل ما أوتيت من فنون التآمر وصناعة المطبات أمام كل محاولة للتغيير- بأن كل تعليم جيد ومجاني من شأنه أن ينتج وعيا طبقيا مهددا لمصالحهم الخاصة ومعها مصالح من يقف خلفهم من القوى الامبريالية العالمية، وعي تكون غايته العاجلة قبل الآجلة هي المطالبة باقتسام فعلي وحقيقي للسلطة والثروة.
بدأت إذن المسيرة المظفرة لتحطيم كل أركان المدرسة العمومية انطلاقا مما سمي تعريب التعليم. وهو في الحقيقة لم يكن تعريبا بقدر ما كان آلية ناجعة لإقصاء أبناء عموم الشعب المغربي من الوصول إلى المناصب العليا وترسيخ فولاذي لسيرورة “إعادة الإنتاج الاجتماعي” كما تحدث عنها، وحلل وفسر نتائجها السوسيولوجيون. تلاه بعد ذلك، وبدون تضييع للوقت، إطلاق عملية تنكيت فجة وسخرية ممنهجة من المعلم ويومياته لضرب رمزيته في الوعي الجمعي لدى الناس وتحضيره نفسيا حتى يقبل بأن يكون في أسفل الهرم الاجتماعي. حتى صارت وظيفة المعلم اليوم مما يهدد به البعض أبناءهم المدللين في حال فشلهم الدراسي، ومما يعافه حتى بعض أكبر الفاشلين دراسيا من التلاميذ. ثم كانت الضربة القاضية عندما تمت أجرأة وتنزيل ما سمي الميثاق الوطني للتربية والتكوين وبخاصة في شقه المسمى “إصلاحا جامعيا” وذلك عندما ثم الانتقال إلى نظام الوحدات والاجازة ذات الثلاث سنوات بدل الأربع وما شكله هذا العبث المفتقد لشروطه الذاتية والموضوعية من دمار شامل وإجهاز تام ونهائي على شيء كان يسمى في الماضي الجامعة المغربية. هذا الفعل الشنيع الذي وصفه المفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة بأنه “أكبر جريمة ترتكب في حق الشعب المغربي”.
إن الذي يريد إصلاح التعليم بالفعل لا يسعى في خراب الجامعة،لأنها تبقى فرصة الوطن الوحيدة لتكوين نخبة قادرة على التفكير، وآخر خندق للمقاومة قبل الانهيار الكبير.
إن الذي يريد إصلاح التعليم بالفعل لا يبدأ بتعريب التعليم الأساسي ويترك التعليم العالي والبحث العلمي مفرنسا ثم يقف عند منتصف الطريق دون أن تطال “غيرته” على لغة الدستور والأمة مجالات أخرى كالاقتصاد والأعمال والإدارة، بل فواتير الماء والكهرباء ..!!
إن الذي يريد إصلاح التعليم بالفعل ما كان ليسمح للشركات الخصوصية المسمات زورا وبهتانا مدارس خصوصية بالتغول والاقتيات على الأزمة بإعفائها من أداء الضرائب وهي المقاولة الواضحة الأركان وغض الطرف عن مصها الوحشي لدماء الآباء وأولياء أمور التلاميذ ومعهم الشغيلة التي تشتغل في كثير من هذه الشركات في ظروف مهينة وتحت أبشع أنواع الاستغلال والاستعباد.
إن الذي يريد إصلاح التعليم بالفعل لا يمكن أن يسمح بأن تحمل شركات تعليم خاصة أسماء مؤسسيها النكرات والأميين ويسمح بأن تسير بعض هذه الشركات من طرف أشخاص لا يعرفون كيف يميزون بين تربية البشر وتربية البقر. كل همهم جعل دجاجة التعليم الخاص التي تبيض لهم ذهبا وفية لموعد إباضتها الشهري.
إن الذي يريد إصلاح التعليم بالفعل لا يرسل شبابا من الشارع إلى الفصل مباشرة بدون أدنى تكوين ليلعبوا دور الشرطي داخل فصولهم الدراسية بدل التدريس.
إن الذي يريد إصلاح التعليم بالفعل لا يعين تحت مسمى التعاقد من ضمن من عين أشخاصا طردتهم أوروبا بسبب سلوكهم السيء وآخرين لم يقرؤوا سطرا واحدا منذ عقود من الزمن.
إن الذي يريد إصلاح التعليم بالفعل لا يمكن أن يسمح بوجود تعليمين بسرعتين وبمحتويين مختلفين داخل نفس البلد. واحد للمحظوظين وذريتهم وآخر لأطفال وفتيان وشباب بلا مستقبل. تم يأتي ليتحدث لنا بكل ما أوتي من صفاقة عن مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص.
إن الذي يريد إصلاح التعليم بالفعل عار عليه أن يدرس أبناءه في مدارس خاصة وفي مدارس البعثات ويأتي ليتباكى في كل مناسبة أوبدونها على وضعية بسببها صار هو ومن على شاكلته مسؤولا يتنعم بأموال دافعي الضرائب.
إن الذي يريد إصلاح التعليم بالفعل لا يخرب الأحزاب والنقابات برعاية الكائنات الطفيلية داخلها ومباركتها ثم يتربع على خرابها مجتمعة ليقول لنا “أنا وحدي نضوي البلاد”.
وأولا وأخيرا، إن الذي يريد إصلاح التعليم بالفعل لا بد له أن يطرح بما يكفي من الشجاعة والوضوح سؤال طبيعة النظام السياسي القائم وطبيعة النظام السياسي الذي نريد وما يتفرع عن هذا السؤال بالضرورة من أسئلة أخرى كتلك المتعلقة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية… غير ذلك، شيء من الخجل يرحمكم الله.
أستاذ الفلسفة بفم العنصر نيابة بني ملال